كورونا ، وقلق الحداثة
الجدل حول حقيقة هذا الوباء (كورونا) وفيما إذا كان فيروسا طبيعيا أو سلاحا بيولوجيا، لن يفضي إلى شيء. سوف يظل السجال مستمرا زمنا حتى يسقط الموضوع في مهاوي النسيان. سجال يغذيه شيء من شوق الغموض وكثير من حرقة الشك.
التحليل يجب أن ينصب على ما يحمله هذا الحدث الوبائي العالمي من دلالات ومعاني لها صلة بالأداء الوجودي العام للإنسان.
هذا الوباء هو صرخة العالم، الطبيعي والانساني على حد سواء، تحت ضربات الحداثة. إنه صرخة احتجاج على العقل الأداتي الذي يهيمن على حياتنا اليوم. هذه الصرخة ليست الأولى في مسار الحداثة ولن تكون الأخيرة. غير أن خصوصيتها التي تميّزها عمّا سبقها من أنّات العالم هي طابعها الصامت. فإذا كانت أوجاع العالم الحديث، منذ عصر النهضة إلى اليوم، تبلغ مسامعنا حروبا وتفجيرات وكوارث بيئية وإبادات عرقية ودينية وظلما ...، فإن هذا الوباء الأخير يمثل تعبيرا صامتا عن قلق عميق تعيشه الحداثة منذ عقود طويلة. إنه تمرّد وجودي / طبيعي / حياتي ضد عقل حسابي حوّل حُلم الحداثة بازدهار الانسانية إلى كابوس للتدمير الذاتي.
الأنوار، تلك الكلمة السحرية التي فَتَنَ بها فلاسفة الحداثة وعلماؤها عقولَ الناس، قد تحوّلت من أضواء تنير إلى نيران تحرق. إن صورة التنوير نفسها تحمل في صلبها طباقية ساخرة عبّرت عنها خرافة وردت في إحدى النشريات الألمانية أواخر القرن 18. الخرافة تحكي مشهدا عبثيّا. فهي تتحدث عن قرد أشعل النار في غابة وأحرقها بالكامل ثم انبرى مغتبطا يهنّئ نفسه لأنه، بفعله ذاك، قد أضاء المدينة. صحيح أن العقل نور، غير أن العالم يريد أن يستنير بضوئه لا أن يحترق بناره.
من العشق إلى الغزو، ذلك هو التحول الحاصل في علاقة الانسان بالطبيعة. تحوّلٌ غادر جنّة الحب والغزل إلى جحيم الهيمنة والخضوع. عبارات مثل "السيطرة على الطبيعة" أو "الصراع مع الطبيعة" أو "سيادة الانسان"، التي صاحبت خطاب الحداثة منذ البداية تحمل في طياتها كلّ بذور الشرور التي سيجني الانسان المعاصر جراحها فيما بعد. لم تعد الطبيعة مصدر إلهام بل مستودعا للطاقة، لم تعد مسكنا بل عدوا. لذلك يتعامل معها العقل الأداتي كموضوع للاستغلال والاستنزاف وليس كمأوى يسكن إليها.
و النتيجة، تخريب تئن تحته الطبيعة فتتكلم لغة الكورونا وغيرها من اللغات الاخرى غير المفهومة. انها لغة الغضب التي يجوز فيها القول السيء. لغة قد يستغرق فهمها التقني وقتا قصيرا لكن فهمها الحضاري سوف يستغرق أوقاتا طويلة.
جرائم هذا العقل لم تتوقف عند استنزاف الطبيعة بل طالت الانسان أيضا. فقد جُرّدت العلاقات الانسانية من وشاحها العاطفي واختُزِلت في روابط تحكمها النقود. فتحولت المرأة مثلا كرمز يلخص أبعاد الحياة من عطر روحي إلى موضوع للمتعة.
أما المعنى الذي يمثل مبرّر الوجود وسلاحا لمقاومة قساوة الحياة فقد انسحب من العالم بعد أن لاحقه الرقم يطارده من كل مواقع التأثير، بل ويطرده حتى من تفاصيل الحياة اليومية. لقد انسحب من المناطق الحيوية للإنسان وآوى إلى زوايا الوهم والعجز في دور العبادة. ولم يعد يُسْتدعى إلا كطوق نجاة أخير ليائس يحتضر. تميمة ليس إلاّ. هكذا خلا الفضاء لكل قوى الدمار والتدمير الذاتي. المعنوي والمادي، المرئي واللامرئي. الكورونا هي مارد من مردة تعاقبت على الانسانية منذ أن رأت في نفسها ندّا وجوديا للطبيعة والله، لكأنّ انفصال العقل عن الوجود، والانسان عن الطبيعة كان مدخلا لكل المآسي. لقد نسي الانسان أنه "ضيف في العالم وليس سيدا عليه"، على حد تعبير انيق لأحد المثقفين.
المفارقة الصادمة أن أفلاطون نفسه كان على وعي تام بالمآل الاخير الذي ستنتهي إليه مغامرة العقل بعد أن فكّ الارتباط بما سواه وانتصب مستقلا، متحررا من الله وسيدا على الطبيعة، أو هكذا خيّل إليه أنه سيكون. ففي نص بديع بنَفَسٍ استشرافي بعيد، يشبّه أفلاطون العقل الانساني اليوم بذلك الطفل (مرحلة الوصاية والانتماء) الذي ينتمي إلى عائلة وافرة العدد ميسورة الحال. ولكن عند بلوغ سن الرشد (العقل) يكتشف أنه ليس ابن اولئك الذين كانوا يوهمونه بأنهم أهله وعائلته (الأساطير و التمثلات ومكونات الثقافة التقليدية بوجه عام) كما يدرك بأنه لن يجد عائلته الحقيقية. وهو لن يجد عائلته الحقيقية لأنه قوّض أسطورة الأصل الوجودي ولأن مغامرة التفكير بعد ذلك ستكون بمثابة مسار تفكيك مستمر لا يسلّم فيها العقل بأي مطلق أو ثابت. الشيء الذي يعني أن الوجه الآخر للعقلانية هو العدمية، والوجه الآخر للتحرر هو الاغتراب. فبقدر ما تحرر الإنسان من وهم الاسطورة ألقى بنفسه في متاهة الاغتراب. و بقدر ما تخلص من تلك المعاني "الوهمية"…ألقى بنفسه في طريق العدمية.
ليس هذا القول انتصارا للتقاليد التي كانت تؤمّن نصيبا من معنى تسكن إليه النفس ويستقيم به الاجتماع، على ركودهما الشبيه بالموت، ولا هو إنكار للعقلانية التي حررت الانسان من قيود. بل هو توصيف لمآلات فعل عقلاني حطم المآوي القديمة للمعنى ولم يخلق بديلا سوى التيه. الكورونا هي ما يلقاه التائه دون توقع ولا انتظار.
الثورة العلمية الفلسفية التي رافقت نشأة الحداثة قالت إنها اكتشفت أن العالم ليس مُعَدّا للإله، بل ليس معدّا حتى للإنسان نفسه. اكتشاف ثمين يحرر الانسان من سلطة المقدس وعبوديته، غير أنه اكتشاف مرعب لأنه ينذره الى جري خارج المركز في اتجاه المجهول. قالت الحداثة أيضا إن المعاني الدينية إضافات مسقطة من عقل واهم. ومن ثمة اصبح الوجود في نظرها خلوا من كل معنى. المعنى نفسه تعتبره أثرا على السطح، إنه في نظرها فتات من بقايا الميتافيزيقا يجب التخلص منه.
هذه الفلسفة العقلانية التي جاءت بها الحداثة لا تؤسس لأنطولوجيا أصيلة. أي لوجود راسخ ومحكم. ولا يمكن اعتبارها كذلك. بل هي تقدم لنا "وجودا" عاريا من كل قيمة. "وجود" لا نلج اليه الا بلغة الارقام وأدوات النجاعة.
في ظل شعور الانسان بأنه محروم من كل دعم أو سند إلهي، لا تعدو أن تكون العقلانية مواجهة بلا سلاح. إنها أشبه بإشهاد رواقي يواجه العالم أعزل.
والنتيجة، ألم متواصل.
فلاسفة ومفكرون عديدون كانوا على وعي مبكّر بالمحاذير التي تحيط بالمسلك العقلاني الجديد. مغامرة إنسانية مخيفة يقبل فيها البشر على إعلان الحرب على طبيعة ذلول. مغامرة يفك فيها الانسان الارتباط بكل شيء. مغامرة يكون فيها الانسان عدم ذاته. كائن يتجاوز نفسه باستمرار نحو لا شيء.
روسو و فيكو و نيتشة و ليوباردي ... وكثير غيرهم لم يكونوا ضد الحداثة بل كانوا حداثيين أصيبوا بالخيبة. عبقرية هؤلاء تكمن في التفطن المبكر جدا وعلى نحو نبوي، بالمآلات المؤلمة. انها قوة التفكير وصفاء الذهن.
وباء كورونا جرس إنذار آخر يُقرع للعودة الى الذات، إحياءً للتحالف القديم بين الإنسان والعالم.