مارس 2021
مقدمة على … كتاب البروباغندا (ج1/3)
عُرِفَ إدوارد بيرنايز (1891-1995) بشكل عام أنه أحد المؤسسين الرئيسيين لصناعة ((البروباغندا العلاقات العامة؟!)) في القرن العشرين. لقد عاش إدوارد حياته محللا متنقلا خطيرا في الاستشارات المتعلقة بالدعاية وتصحيح أخطاء الشركات وأصحاب السلطة وتخطي المحرمات الاجتماعية وإسقاط المخالفين في فترة اتقاد ذهنه في المرحلة الشبابية وما جاءه بعدها من السمو والرفاهية الاجتماعية التي نالها. وكان يتجه في ذلك إلى المسار العام للبروباغندا القاضي إلى أساس التلاعب بالأقوال والأخبار ووسائل الإعلام والرأي العام وإلغاء المبادئ الأخلاقية تماما في استعمال البروباغندا، ولعل أكثر نشاطات البروباغندا السياسية تطرفا ولا أخلاقية لدى إدوارد عمله على إسقاط حكومة غواتيمالا المنتخبة ديمقراطيا ورئيسها جاكوبو أربينز جوزمان، وكذلك الممارسة المنهجية الواسعة لعرض الحقائق.
....... حصل على شهادته في الزراعة من جامعة كورنيل. لكن هذه التجربة الأكاديمية أصابته بخيبة أمل شديدة، حيث لم يتعلم الكثير منها، كما أنه لا ينوي الاستمرار في خطى والده الذي كان مزارعا، ونمت مهنته بعد ذلك في الصحافة فلم يكمل. لقد صنع إدوارد لنفسه مكانة عالية في التأثير وصناعة القرار التوجيهي الداخلي عندما التفت إلى عالم صناعة البروباغندا، واستنتج آثار [ البروباغندا الفردية] التي استخدمها للوصول لأكثر القيادات سطوة وتأثيرا، وهذا ناتج عن حمولته المعرفية الغير أخلاقية لاستخدام البروباغندا. يمكننا قياس تأثير أفكار بيرنايز من خلال التذكير بالملاحظة القوية التي أشار إليها عالم النفس الأسترالي ألكيس كاري في كتابه المترجم للعربية من طرفنا [المخاطرة بالديمقراطية - بروباغندا الشركات مقابل الحرية]، والتي تشير إلى أن "ثلاث ظواهر ذات أهمية سياسية كبيرة تحددت في القرن العشرين". الأولى تكمن في [ النهوض بالديمقراطية ]، ولا سيما توسيع حق التصويت وتطوير النقابات العمالية. والثانية هي [ زيادة قوة الشركات ]. والثالثة هي [ النشر المكثف للبروباغندا من قبل الشركات من أجل الحفاظ على قوتها في مأمن من الديمقراطية الحديثة ]. وكما ترجع بعض الفظاعة الغير أخلاقية لاستخدامات البروباغندا عند إدوارد في كتابه المترجم للعربية من طرفنا [تلميع الرأي العام 1923] الذي كشف فيه عن طفف من تلك الأساليب .... فإن البروباغندا عملية غير أخلاقية هادفة للسيطرة وهندسة العقول وفق اتجاه معين من الأصل، ولا تقوم إلا على ذلك، تخريب العادات والديانات، ... ولعل تنزيل إدوارد لتلك البروباغندا التطبيقية المستخدمة شاهد أيضا. هندس في إحدى المرات إفطارا لمجموعة من فناني الاستعراضات مع الرئيس الأمريكي كالفين كوليدج للمساعدة في تحسين شهرته، يعتبر هذا الإفطار من قبل الكثيرين أول عمل دعائي مفتوح لرئيس أمريكي، وساعد بيرنايز شركة ألومنيوم الولايات المتحدة ومجموعات استثمارية أخرى على إقناع الجمهور الأمريكي على أن فلورة الماء آمنة ونافعة لصحة الإنسان، استخدم في هذه الحملة جمعية الأطباء الأمريكيين حملة اعتبرت عالية النجاح . وحملته في عقد الثلاثينات من القرن العشرين لأكواب ديكسي كانت بغرض إقناع جمهور المستهلكين أن الأكواب الغير قابلة لإعادة الاستعمال هي الصحية، وأرسل مجموعة من الفتيات العارضات للسير في استعراض مدينة نيويورك، ثم أخبر الصحافة أن هناك مجموعة من السائرات من جمعية حقوق المرأة سيقمن بإشعال "شعلات الحرية" بناء على إشارة منه، أشعلت الفتيات سجائر لاكى سترايك بمواجهة الصحفيين المتعطشين لتغطية الحدث، ليصبح تدخين النساء حلالا اجتماعيا... وإذا ما أردت أن تعاين: لماذا تستخدم الدول القوية البروباغندا وتستعين بمستشارين رفيعين، فلَعمْرُكَ إن نصيبا من الجواب لموجود في هذا الكتاب.. وإن كان إدوارد يحاول تلميع البروباغندا في هذا الكتاب قليلا ليضمن الرجوع إليه في طرق استخدامها من طرف المؤسسات المهتمة نظرا لابتداء ظهورها، إلا أن خطوته بعد ذلك في تأسيس مكتب استشارات لاستقطاب أصحاب القرار لأكبر دليل على ذلك القول. ترجع أهمية بيرنايز تحديدا إلى حقيقة أنه ساهم بطريقة فظيعة أكثر من أي شخص آخر في صياغة وتطوير ونشر هذه الظاهرة الثالثة.[ النشر المكثف للبروباغندا من قبل الشركات من أجل الحفاظ على قوتها في مأمن من الديمقراطية الحديثة ]. ظهر هذا العمل ....لإدوارد بيرنايز تحت عنوان" البروباغندا" أصدره عام 1928، ويمكن اعتباره بمثابة "بطاقة زيارة" لمجال البروباغندا. والذي يعد أول كتاب تحليلي تنبأ فيه بمستقبل البروباغندا وسطوتها القوية للترويج وتصحيح مفاهيم السيطرة، وهذا بالفعل ما فهمه الأمريكيون ....بعمق وهم يطبقونه الآن في العالم الغربي والعربي. ظهر كتاب البروباغندا بعد كتابه الأول "تلميع الرأي العام" - يعلمك إدوارد في كتاب البروباغندا أن كل ما تراه ينشط حولك بشكل يضعه علامة استفهام؟ فمن شأنه أن يستهدفك وتخضع لآليته الدعائية بوعي أو بدون وعي، لهذا حلله وكشف عنه وعن طرق استخداماته السياسية بالدرجة الأولى لتراه رأي العين، لأنه أصبح يأخذ أساليب محددة تتطور من وقت لآخر حسب الاستخدام، لكنه راجع لوسائل الإعلام و التغطيات الإخبارية لموضوع ما بالدرجة الأولى. لهذا تنبأ إدوارد بمستقبل البروباغندا وطرق توظيفها من طرف المؤسسات الحكومية و غير الحكومية. يركز هذا الكتاب بين ناظريك أولا على المساهمة التي يمكن أن تقدمها البروباغندا للمؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنسائية، والتأثير في صناعة القرار، لكنه يستحضر النطاق الاستثنائي لمجالات التدخل التي تنفتح على الشكل الجديد من "الهندسة الاجتماعية" التي يطرحها بيرنايز ها هنا، والخدمات التي يمكن أن تقدمها البروباغندا في قضايا المرأة، إلى الأعمال الاجتماعية والتعليم، وكذلك الفن والعلوم ، ولقد كان حسنا أن ترى استخدامات بعض الدول لمبادئ البروباغندا التي ذكرها إدوارد في هذا الكتاب (أمريكا، ، روسيا، الصين، كوريا الشمالية على سبيل المثال)،ثم يختم بآليات استخدام البروباغندا، ومدى تطورها بتطور التكنولوجيا التي استشرف لها إدوارد في بداياته التفصيلية، لمح أنها قد تضر بالبروباغندا وتخفف من تأثيرها ما لم تتم ممارستها بشكل منظم يغير نظرة الجمهور نحوها. لهذا قال: " البروباغندا لن تموت أبدا، يجب أن يدرك الرجال الأذكياء أن البروباغندا هي الأداة الحديثة التي يمكنهم النضال من خلالها لأجل غايات إنتاجية، وللمساعدة في إخراج النظام من الفوضى. العودة إلى التاريخ هي الصفحة الأولى للسلاح.
نبدأ من حيث انتهى بنا إدوارد بيرنايز مقتبسين ما يقوله إدوارد في الفصل الثالث: (البروباغنديون الجدد): " تتجه الحكومة غير المرئية إلى التمركز في أيدي القلة القليلة بسبب تكلفة التلاعب بالآلية الاجتماعية التي تتحكم في آراء وعادات الجماهير. فإذا كان الترويج يصل إلى نطاق خمسين مليون شخص فإنه يكون مكلفا. إن الوصول إلى قادة المجموعة الذين يُملون أفكار الجمهور وأفعالهم لإقناعهم أمر مكلف أيضا. لهذا السبب هناك ميل متزايد لتركيز وظائف البروباغندا في أيدي متخصصي البروباغندا. يتولى هذا المختص أكثر الأماكن والوظائف المتميزة في حياتنا الوطنية لكي يختصر الطرق. تتطلب الأنشطة الجديدة تسميات جديدة. أصبح هو الداعي المتخصص لتفسير المشاريع والأفكار للجمهور، تُفَسِّرُ الجماهير مُصدري المشاريع والأفكار الجديدة باسم "مستشاري البروباغندا". نمت مهنة البروباغندا الجديدة بسبب التعقيد المتزايد للحياة الحديثة وما يترتب على ذلك من ضرورة جعل التصرفات جزءا من الجمهور، وتُفَهّم القطاعات الأخرى حولهم. ويعود ذلك إلى الاعتماد المتزايد بالسلطة المنظمة بجميع أنواعها على الرأي العام.."
لقد كان حسنا أن تتم الإشارة إلى مفهوم (مستشار البروباغندا) الذي استخلص أخيرا أن الحروب الجديدة على القناعات ينبغي أن تأخذ منعطف النعومة، فإن كانت الحرب هذه معنية بتحقيق هدف سياسي أو إقليمي، فكل ما سيدخل في هذه الحرب كالاستعدادات الاقتصادية والاجتماعية والتخطيط الاستراتيجي وإدارة العمليات واستخدام العنف في جميع المستويات، فلابد أن تتقرر في ضوء ذلك الهدف المُعلن، أو تنسجم معه على الأقل. أثناء الحديث حول هذا أستذكر ما قاله (غي دورندان) في كتابه "البروباغندا، والبروباغندا السياسية" ترجمة د : رالف رزق الله [ قد يكتشف الجمهور - الحقيقة - ولكن بعد فوات الأوان، أي بعد تأديته السلوك المناسب، كما يؤديه الداعية..] وقد خلص: (غي دورندان) في كتابه الذي أنفق عليه 20 سنة من الإعداد: (أسس الكذب)؛ أن "الحكومات والأفراد لا يكذبون لأنهم يجدون متعة في ذلك، ولكن ليحلوا مشاكلهم الوجودية.. "وإذ تكون البروباغندا السياسية أكثر تعقيدا لأنها تقوم بمبدأ الاختيار بين الحاجات التي تَعِدُ بإشباعها، وحيث تكون مضطرة بشكل علني أو غير علني أن تحارب حاجات المجموعة الثانية التي لم توافق على مبادئها حين توقعها بدعايتها. وإذا كان هدف البروباغندا السياسية هو توليد التصرفات لدى الجماعات وجمهورها، فإنها نجحت بالفعل في تغيير الإدراكات والأحكام التقييمية، وهذا أخطر ما في فيها، حيث تجعل من العقول مجموعة فاترة تقبل كل الأفعال التي ترتكبها الحكومات القوية بهدف البروباغندا، ومن هنا ترد النظريات التي تطورها البروباغندا وتحتويها، لذا نستحضر البروباغندا الاقناعية في المقام الأول التي أصبحت تأخذ أبعاد ناعمة جدا تنتهي بالسخرية من الخصم المستهدف في آخر الأمر. جاء في كتاب: "عصر البروباغندا" (الاستخدامات اليومية وإساءة استخدام الإقناع)، لأنتوني براتكانيكيس، و إليوت أورنسون، ترجمة: د. إبراهيم محمد المالكي، ما يلي تمهيدا: "على الرغم من استخدام العنف والتهديدات بالعنف في كثير من الأحيان لضمان الامتثال، إلا أن الجزء الأكبر من العمل الخاص بتشكيل توافق جديد في الآراء من هذا التنوع في الرأي والمنظور يقع في عملية الإقناع بالدرجة الأولى. حثَّ المروجون الأوائل المستوطنين في العالم الجديد بوعود بالثروات الهائلة والأراضي الرخيصة والحرية الدينية وعالم جديد غريب.. ". لقد أصبح أخلاقيات المناقشة والإقناع العقلاني، التي تفترضها الديمقراطية مسبقا، تعارض الإقناع العقلاني والنية الراسخة للإقناع، حتى عن طريق التلاعب لشرط ممارسة الفضائل المعرفية مثل الصدق الفكري مثلا، والمناظرة والاستماع والتواضع وشمولية المعلومات، تعارض الأكاذيب والتحيز وإخفاء البيانات ذات الصلة تعارض الفكرة القائلة بأن أي قرار جماعي يُتخذ بشأن كل من هذه الأسئلة الصعبة التي لا حصر لها والذي يطرحه العيش معا لا يمكن الحصول عليه إلا من خلال شفافية مشاركة العدد الأكبر وفي تقاسم المصالح المشتركة. توفر هذه الدعاية الطموحة الفرصة لشخصية ذات خلفية غير نمطية و لربما غير أخلاقية في بعض الأحيان لكشف حلولها والدفاع عنها من خلال الشفافية التي يكشف بها عن بعض أكثر القناعات الحميمية السائدة بين جزء كبير من نخب المجتمع ومؤسساتها المهيمنة، و يشكل هذا العمل وثيقة سياسية أساسية لنظرة محورية. بيرنايز هو ابن شقيق سيغموند فرويد (1856-1939): والده هو شقيق زوجة مؤسس التحليل النفسي، بينما والدة بيرنايز، آنا فرويد أخته. غالبا ما يستخدم بيرنايز هذه البنوة المرموقة للترويج لخدماته، لكن ما يربطه بعمه يتجاوز هذه العلاقة الأسرية البسيطة: إن عمل فرويد سيحسب في المفهوم الذي يقوم فيه بيرنايز بهذه المهمة التي يجب أن تحققها البروباغندا، ذلك من خلال الوسائل التي يجب أن تُنفَّذ بها. قام بيرنايز باستخدام أفكار عمه سيغموند في مجال التحليل النفسي لمصلحة القطاع التجاري وذلك بغرض الترويج بطرق غير مباشرة، لبضائع متنوعة مثل السجائر، الصابون و الكتب، ولو علم إدوارد أن أفكاره في كتبه أصبحت تساوي الملايين في عصرنا الأكثر خداعا واستعمالا للبروباغندا لقام بتحبيس جميع أعماله على ورثته، والاسترزاق منها. يذكر سكوت كاتليب، مؤرخ البروباغندا في هذا الصدد أنه "عندما التقى شخص ما ببيرنايز للمرة الأولى، لم يمض وقت طويل قبل أن يدخل العم سيغموند في طرف الحديث. كانت علاقته بفرويد على الدوام في قلب تفكيره وعمله كمستشار بروباغندا ". يضيف إروين روس: "كان بيرنايز يحب أن يفكر في نفسه على أنه محلل نفسي مشترك". لقد ساهم بيرنايز في إنجاح نظريات فرويد بطريقة أو بأخرى، ونستحضر هنا انجازات البروباغندا الفردية من طرف إدوارد التي لم بتحدث عنها إدواراد إطلاقا في كتبه، لكننا يمكن أن نستنبطها من سيرته الخداعية. ولعل أهم حملاته البروباغندية الناجحة في ذلك، استخدام بيرنايز أفكار عمه فرويد لإقناع الأمريكيين أن لحم الخنزير والبيض هو الإفطار الحقيقى لكل الأمريكيين كما ذكر ذلك في تسجيل صوتي، وبالتالي زيادة مبيعات لحم الخنزير المقدد.
بدأت استخدامات إدوارد للبروباغندا الفردية المكتسبة عندما جذبته الصحافة، وبدأ الكتابة لمجلة ناشيونال نورسيريمان. وجعله صديقه تشانس يلتقي في نيويورك في ديسمبر 1912 مع صديق آخر عرض عليه التعاون في نشر مراجعتين طبيتين شهريتين ورثهما للتو عن والده. سيؤدي هذا الاجتماع إلى سلسلة كاملة من الأحداث التي ستجعل الصحفي الغامض تدريجيا في انطلاق بروباغندا مختلفة، ثم يبدع فيها ويمارسها ويتقلد البطولة في البروباغندا.