كورونا والرؤية إلى مستقبل العالم

الدكتور سمير ساسي

  • image


 

"ما بعد كورونا ليس كما قبلها"

صارت هذه مسلمة الجميع ،لا أحد يطرح  سؤالا جديا عن معناها وتماسكها ،تجري على ألأسنة العامة والعلماء و انصاف الباحثين ،ويبدو أن الغالب الأعم استسهل الركون إليها  فجرت مجرى المسلمة التي يتهم من يشكك في صحتها بأنه لا يستوعب ما يجري في العالم .

وفي الحقيقة إن تفكيك هذه المسلمة هو أول خطوات الفهم الرصين والحكيم لما يجري في العالم ولما سيكون عليه العالم بعد كورونا ،وتفكيكها حسب اعتقادنا نختزله في السؤال التالي : ما الذي أسسنا عليه توقع الانقلاب في مسار تاريخ البشرية بعد كورونا وما الذي يبرر القطيعة التامة بين زمنين فصلت بينها "كورونا"

لا نطرح على أنفسنا التعمق في الاجابة عن هذا السؤال فأولى الناس بالإجابة عنه هم أصحاب هذه المسلمة التي نرى أنها صارت تتحكم في ذهن الباحثين ودفعت كثيرين منهم إلى اطلاق العنان للخيال البحثي فوضعوا لنا سيناريوهات جاهزة كأننا إزاء "هيوليود بحثي "

إن اختلافنا مع أصحاب هذه المسلمة مرده إلى قاعدة بسيطة في علم الاجتماع مفادها أن التغييرات الاجتماعية التي يشهدها مجتمع ما  لا يمكن أن تظهر بين عشية وضحاها ولا تحصل القطيعة في الممارسة الاجتماعية فجأة  و غنما هي وليدة مخاض طويل تحدد زمنه ديناميكات الفعل الاجتماعي نفسه هذا من ناحية

من ناحية أخرى  نحن لا نسلم بمبدأ العامل الواحد في التغيير الاجتماعي فلا يمكن لكورونا أو أيا كان من عوامل الطبيعة أو الثقافة أن يكون المحدد الوحيد في حدوث تغيير أو نشوء ظاهرة أو سقوط نظام

إن تاريخ الأفكار أو تاريخ الحركات الاجتماعية يسندان موقفنا في هذا الإطار خلافا لما ذهبت إليه بعض الدراسات التي عمدت الى استخلاص نتائج ذات مدلول خطير نعتقد أنها متسرعة بسبب استنادها فقط إلى قراءة تاريخ الأوبئة ،من ذلك مثلا ما ذهب إليه عالم الاجتماع الفرنسي جاك أتالي في مقال له نشره على مدونته من أنه "على مدى الألف سنة الماضية، أدّى كل وباء كبير إلى تغييرات جوهريّة داخل أنظمة الأمم السياسيّة، وداخل الثقافات التي تبنى عليها تلك الأنظمةولو اعتمدنا الطاعونُ الكبير الذي عرفته أوروبا في القرن الرابع عشر وأودى بثلث سكانها، كمثال على ذلك، فسيكونُ بوسعنا القول، دون أن نسقط في فخّ تجاوز ما في التاريخ من تعقيد، إنّهُ ساهم في قيام القارة القديمة بمراجعة جذريّة لمكانة رجال الدين السياسية، ومن ثمّة أدّى إلى نشوء أجهزة الشرطة، باعتبارها الشكل الوحيد الفعّال لحماية أرواح النّاس"[1]

ويبدو ادراك اتالي لخطورة استنتاجه واضحا في التنسيب الذي أشار إليه من أنه لا يغفل حقيقة ما في التاريخ من تعقيد ،لكن الحقيقة أن أتالي تجاوز هذا التعقيد بل بسطه إلى درجة كبيرة أخلت بالبحث الاجتماعي حين أشار  في محاولة تعميم غير دقيقة للظاهرة خارج التاريح الأوروبي لتأكيد صدقية نتائجه إلى أننا إن ". اعتمدنا على أمثلة أخرى، سنرى أنّ كلّما ضربت جائحة قارّة ما، إلا وقامت بإثبات زيف المنظومات القائمة على المعتقدات والسيطرة، لفشلها في الحيلولة دون موت أعداد لا تحصى من البشر، ومن ثمّة ينتقم الناجون من أسيادهم، متسبّبين في اختلال علاقتهم مع السلطة: وخطورة هذا الاستنتاج من الناحية العلمية أنه لم يفصل في الأمثلة الأخرى التي قصد الاستناد إليها وهو ما يطرح السؤال عن مدى جدية هذا المستند من الناحية المنهجية أما من الناحية المضمونية فقد جزم أتالي بأن المنظومات التي تقوم على المعتقدات والسيطرة ستزول بفعل نتائج كورونا  وهو هنا يشير إلى الدولة بمفهومها التقليدي السائد وإلى الدين  مثلما أكده في خاتمة مقاله من أننا ". سنشهدُ ولادة سلطة جديدة، حالما تنزاحُ الجائحة، سلطة لن تقوم على الإيمان أو القوة أو العقل (ولا على المال أيضًا، باعتباره تجسيدًا نهائيا لسلطة العقل)، بل ستنتمي السلطة السياسية إلى أولئك الذين أظهروا تعاطفهم مع الآخرين، و ستؤول الهيمنة إلى القطاعات الاقتصادية التي أظهرت تعاطفها مع الناس"

 
ومشكلة أتالي وهي أيضا مشكلة بعض مفكري الغرب وكتابه قراءتهم التجزئية للتاريخ واستخلاص نتائج تعميمية على البشرية كلها فما جاء في استنتاجه الأخير  لا نجد فيه تفسيرا لما اجتاح قارات أخرى غير اوروبية دون أن يؤدي إلى  فشل المنظومة القائمة على المعتقدات كما ذهب إلى ذلك أتالي وتاريخ المسلمين شاهد على خلاف ما قال فقد شهد المسلمون ستة جوائح بدءا من وباء المدائن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بدءا الى طاعون سنة 131 ه مرورا بأشهر طاعون هو طاعون عمواس في سنة 18 ه ومات فيها خمسة وعشرون ألف من المسلمين من بينهم قيادات في الصف الأول بل على رأسهم القائد العام للقوات التي كانت في حرب مع الروم أبو عبيد عامر بن الجراح لكنها لم تثبت زيف السلطة القائمة على المعتقدات ، ولم ينهزم المسلمون أمام الروم ولم تنته تجربة الدولة الإسلامية الناشئة  ووجد الناس اجابات في المعتقد الإسلامي لمواجهة الوباء رغم الخسائر التي تكبدوها في الأرواح  خلافا لما رآه اتالي من عجز الكنيسة عن تقديم اجابات للناس ما أدى إلى انهيار سلطتها[2]

لقد توقع أتالي قيام نظام على أساس التعاطف وهو معنى فضفاض لم يضبطه ولم يحده بشكل علمي دقيق مكتفيا بالإشارة إلى  مسألة التعاطف أثناء وباء كورونا ونحن نعتقد أن علينا  توسيع الفهم في ادراك الظواهر البشرية مع ضبط مصطلحاتنا ومفاهيمنا ضبطا دقيقا وعدم التسرع في استخلاص النتائج من فعل مستمر في الزمن

 

بلا شك نحن لا ننفي التأثير الذي تمارسه "كورونا" في الفعل الاجتماعي والثقافي لإنسان هذا القرن لكننا لا نسلم بان ذلك سيكون مدخلا لقطيعة أو تحول جوهري الآن وهنا بمجرد انجلاء الغبار عن هذا الوباء أو اكتشاف لقاح له ،فقد سبقته إلى ذلك الانفولنزا الاسبانية التي ذهب ضحيتها أكثر من خمسين مليون شخص لكنها لم تغير التوزان الدولي سريعا ولا جوهريا فقد انتظرنا حتى الحرب العالمية الثانية ليشرع نظام دولي جديد في الظهور  والهيمنة .

يطرح آخرون  فرضيات أخرى مثل تراجع حاد لدور الولايات المتحدة الأمريكية لحساب الصين وتفكك الاتحاد الأوروبي  وتراجع العولمة وانحسار الدولة الراعية مرة أخرى وانعدام الثقة في الديمقراطية ..الخ ،وهي فرضيات ممكنة باعتباره تدخل ضمن الفعل الاجتماعي البشري وليس بفعل كونها لم تصمد أمام كورونا وانكشفت عوارتها الاجرائية والنظرية وبدت أزمتها الأخلاقية ،لكن هذا الإمكان النظري ليس متاحا في المدى المنظور فليس لدينا ما يبرر تسليمنا بانهيار سريع لقوة مثل قوة الولايات المتحدة الأمريكية تهيمن على اقتصاد العالم كليا وتمسك بكل أوراق السياسة الدولية بشكل سريع لحساب دولة تسير نحو  فرض حضورها القوي في المشهد دون أن تتجاوز  ما يؤهلها الآن على تولي القيادة العالمية.

إننا نعتقد أن ما يمكن أن يطرح  بناء على تفكيكنا لأثر كورونا في الفعل الاجتماعي وتاريخ البشرية هو أسئلة كبرى  تساعدنا على ضبط توجهنا  في تحديد المستقبل واستشرافه  وعي أسئلة تطال كل مجالات الفعل البشري وتتطلب جرأة في السؤال وجرأة أكبر في الإجابة .

و عن من القضايا الكبرى الجوهرية التي وجب طرح النقاش حولها قضايا الأخلاق والدين و الإنسان ،وهي في نظرنا ثلاثة قضايا متحكمة في فهم مستقبل البشرية بعد كورونا ،ذلك أن هذا الفيروس كشف  أزمة مفهوم الإنسان كما هي سائدة في العالم وفقا لمنظور الفلسفة الغربية ،هذا المفهوم الذي يقوم على مركزية الانسان وهيمنته على الطبيعة لا على أساس أنه جزء منها و أنها مسخرة له ،فالشعور بالهيمنة يجعل المهيمن عليه مستباحا  للمهيمن بلا ضوابط وبلا أخلاق إلا ما يحقق حالة الإشباع  لدى المهيمن وهو ما سبب  الكوارث البيئية المختلفة نتيجة سباق التسلح والتصنيع المختلفة ،وهذا المبدأ يتكامل مع مبدأ القوة الذي لا يعترف للضعيف بحق العيش  وهو ما برز في سياسة الدول الأوروبية تجاه كورونا في بداية ظهوره  من خلال ما عرف بسياسة مناعة القطيع التي عبر عنها رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون  وتهدف إلى فسح المجال أمام انتشار الفيروس للتخلص ممن ليس لم مناعة  لحساب من كانت مناعتهم أقوى وهم عادة من فئة الشباب ،لقد قامت سياسة الدول الأوروبية على انتهاز فرصة كورونا للتخلص من كبار السن الذين ينظر إليهم في الغرب على أنهم "زاوئد " مجتمعية يستعجلون الخلاص منها .

ومثلما أفرز هذا الفهم للإنسان الفاشية والنازية في القرن الماضي أفرز هذا التمييز المجتمعي وطرح سؤالا كبيرا  عن مفهوم المواطنة  وتجذره في الغرب فمصطلح القطيع المعتمد لدى ساسة الدول الاوربية خلال هذه الأزمة يتناقض جوهريا مع مفهوم المواطن وسياسة التمييز بين كبار السن والشباب أو الأقوى و الأضعف يضرب هذا المفهوم في العمق ويعيد إلينا مفهوم الانتخاب الطبيعي أو نظرية البقاء للأصلح وهو ما يجعلنا نسأل بشكل جدي هل  نحن إزاء ردة معرفية وفكرية ما قبل حداثية أم أن الأمر يتعلق بانفصام بين الإنسان والحداثة وما بعدها نظرا وسلوكا

في الجهة المقابلة أي في العالم الإسلامي الذي بدا أقل تضررا من أثر كورونا في المستوى المادي طرحت قضايا فكرية وفلسفية أعمق مدارها الأساس :أين الإنسان في هذا العالم الموسوم بالإسلامي ؟وهو سؤال أملاه سلوك الفرد والمجموعة على حد سواء في العالم الإسلامي سلوك استنسخ كثيرا من مظاهر سلوك الإنسان الغربي (التكالب على تخزين المواد الغذائية ،نزعة الخلاص الفردي ..) وهو أمر متفهم غير مبرر بالنظر إلى انخراط هذا الإنسان في نظام السوق المعولم القائم على الاستهلاك  وليس على الحاجة

لكن الأزمة الحقيقية التي فرضت سؤال أين الإنسان  في عالمنا تجلت في حالة الانفصام بين القناعات النظرية للفرد والمجموعة  والتصرف في الواقع خاصة ما تعلق منها بفهم الدين باعتباره العامل المؤسس لثقافة المجتمع الإسلامي .

لقد بدا إنسان العالم الإسلامي "تائها" بين معتقداته وفعله ،وفي الحقيقة هو تيه قديم لم يفلح مفكرو العالم الإسلامي وفقهاؤه في ايجاد حلول منهجية و آليات عملية لتجاوزه ،لكنه تجلى بأكثر وضوحا في أزمة كورونا التي فرضت وقائع غير مسبوقة مثل تعطيل الشعائر التعبدية الخاصة بالصلاة   والتي لم يقدر العقل المسلم العامي في استيعابها بسبب ما نعتبره خللا جوهريا في منهج فهم الحكم الشرعي القائم على تحديد الفعل وفق ثنائية الثواب والعقاب وليس الصلاح والفساد وبينهما فرق جوهري هو مشروع  بحث مستقل بالنسبة إلينا،فثنائية الثواب والعقاب تمنع المسلم من قبول تعطيل الجماعة لأنه ينظر إلى ثواب الجماعة محددا لصحة الفعل والحال أن الشرع بنى صحة الفعل على شروط أخرى لا علاقة لها بالثواب يصح معها الفعل بصرف النظر عن درجة ثوابه التي هي من علم الغيب ،وهذا الخلل المنهجي امتد إلى التعامل مع قرار السلطة تقييما ومواجهة ،فكثيرون صنفوا هذه السلطة التي قررت تعطيل الجماعة لأسباب صحية بأنها معادية للدين وخرجوا في تحد لها لإقامة الشعائر غير مدركين لمفهوم طاعة أولى الأمر من أهل الاختصاص ولا مستحضرين مقاصد الشرع في ذلك .

ونحن لا نروم الدخول في تفصيل هذه القضية لكننا نعتمدها لنشير إلى ضرورة التفكير جديا في طرح الاسئلة الحقيقة عن الدين في المعتقد والممارسة ،وهي دعوة تفرضها أيضا مواقف غير الملتزمين دينيا في المجتمع الإسلامي الذين هاجموا وسخروا من المتدينين المتمسكين بإقامة الشعائر ،ذلك أن خطابهم كان خطابا أكثر أزمة من الخطاب المتدين يعبر عن حاجة ماسة لمراجعة كل ما يتعلق بالدين فهما وممارسة ونقدا داخل العالم الإسلامي وفي عقول أبنائه عامة الناس ونخبتهم ,

إذا لم يكن من فضل لكورونا سوى طرح هذه الأسئلة الجوهرية فهذا كاف لندرك مدى الأثر العميق الذي تركه في زماننا ،دون أن ننساق وراء التخيلات بحدوث انقلاب كوني  غير مسبوق لأن الأمر يتعلق بالغنسان المواجه لكورونا ومدى توفقه في الأجابة عن هذه الأسئلة فربما تركها جانبا و واصل حياته مكتفيا بالترميم مستكفيا بعلمه الذي نجاه من كورونا بجرعة لقاح .

 

رابط المقال

http://www.attali.com/societe/que-naitra-t-il/ [1]

2 نشير هنا إلى الحوار بين الخليفة عمر بن الخطاب وقائد الجيش أبو عبيدة حين اعترض على مغادرة الجيش أرض الوباء بذريعة دينية وهو عدم جواز الفرار من قدر الله فرد عليه الخليفة بأن الأمر يتعلق بفرار من قدر الله إلى قدر الله  ما يعني إعادة فهم لسؤال الدين في علاقة بالحياة