مارس 2021
الانتحار ... السياسي
لحظات التاريخ الفاصلة و المأساوية، أين ينفصل الزمن إلى ماضي و مستقبل ، لحظات نادرة و عنيفة.
إنها لحظات الولادة .
لحظات كثيفة بالأحداث و المواقف و السلوكيات و الأقوال والبطولات و الخيانات .
نعم ، فكلما كانت البطولات و المواقف كبيرة في لحظات حاسمة ، كلما كانت الخيانات في المقابل كبيرة و صارخة .
بين عالمين، عالم يذهب إلى التاريخ و عالم يسطع ، تظهر الحقائق المخفية و المخيفة . عاشت أوروبا بين الحربين العالميتين الأولى و الثانية عهدا من الازدهار و الثروة و الرفاه و الغطرسة و الاستعمار و التسلط على الآخرين بشكل لم يسبق له مثيل.
و راكمت كل المضادات جنبا لجنب ، مع غطاء سميك من التعجرف و اللامبالاة و القسوة، حتى وجدت فرنسا نفسها تحت استعمار و ذل من نوع خاص ، فانكشفت عورات المجتمع و انفرز الناس إلى أحرار و عملاء .
كشفت بضع سنين من التسلط الاستعماري الألماني على أوروبا حقائق كانت مغمورة، تحت انتفاخات من الرفاه المغشوش و من الفوضى العارمة ، لمجتمعات كانت هي نفسها تعيش على اضطهاد الآخرين و امتصاص دمائهم و ثرواتهم و حريتهم .
إنها اللحظات التي يتيحها القدر لكل مجتمع لكي يصحو. إنها اللقاء الحاسم بين التاريخ و القدر ، قدر الناس ـلكي يروا في مرآة حاضرهم حقيقة أنفسهم و حقائق بعضهم البعض. في تلك اللحظات الحاسمة تنكشف العورات .
تنكشف حقائق الناس و لا مفر من مشاهدتها.
لقد اكتشف المجتمع الفرنسي منذ دخول الألمان مدينة باريس و حتى خروجهم منها نهاية الحرب العالمية الثانية ، اكتشف المجتمع خيانات الكثيرين ، و جنايات الكثيرين ، و بلاهة و ضعف الكثيرين و انتهازية و نازية الكثيرين .
و لو لم تكن تلك السنين القصيرة من الاجتياح الألماني لما اكتشف المجتمع الفرنسي و الأوروبي تلك الفظاعات التي كانت تعيش معهم و بينهم.
انه التاريخ و القدر في لحظات حاسمة و عنيفة، حين يكتشف الناس من هم مع المستقبل و من هم مع الماضي. انه القدر الذي يمنح الناس تلك اللحظة الفاصلة من اجل الدفاع عن أوطانهم و أهلهم و حريتهم فتميل الأغلبية إلى ذلك الواجب، و تفر القلة حين ينكشف أمرها.
لا أحد يختار تلك اللحظات الحاسمة في تاريخ الشعوب و الأمم. تأتي متجمعة كثيفة في شكل ثورة أو في شكل الرد على عدوان أو في شكل كوارث أو مصائب طبيعية ، فينفرز الناس إلى صنفين لا ثالث لهما :
صنف ينطلق ، بكل ما أوتي من جهد و قوة و استعداد و بطولة و شجاعة، ينطلق للتصدي و للدفاع أو للبناء.
و صنف يهرب، يتلون بكل الأعذار و الترهات و الألوان لكي يتجنب المعركة و التضحية و الفداء.
هكذا ينـتحر الناس .
و هكذا ينتحر أولائك الذين بنوا شخصياتهم و نفوذهم وسلطتهم على الغش و الوهم . لأنهم تصوروا أن البطولات تبنى بالانتفاخ و الوهم ، يتجنبون المعركة و يتجنبون طوال حياتهم الامتحانات الحقيقية . ناسين أن مراتب الشرف و الكرامة و النضال لا ينالها شخص ، و لا ينالها شعب ، إلا من خلال الصمود أمام المحن الكبرى و التي لا نختارها عادة، بل تفرض نفسها علينا دون سابق إنذار.
في هذه الأيام، و في بلادنا، يجد الناس أنفسهم، بعد أن خاضوا معركة إزاحة الديكتاتورية، يجد الناس أنفسهم في معركة أخرى، معركة الكرامة و الحرية. معركة تفرض عليهم الاختيار، و سيختارون، و لن يقف أمام هذا الاختيار دعاية تريد أن تصيب وعيهم في مقتل، و لا خوف على من استنشق عطر الحرية.
الإشكال و الورطة الحقيقية هي لدى أولائك الذين كشفت هذه المعركة على دواخلهم المريضة . و كلما تكلموا إلا و ازدادوا ابتعادا عن هذا الشعب الذي لم يكن يتوقع أنهم بهذا السوء و العنجهية. إنها هي هذه اللحظات التاريخية التي يخشاها هؤلاء المزيفون الذين بنوا لعقود طويلة هالة نضالاتهم على الخديعة و الوهم. يأتي يوم الاصطفاف فإذا هم يصطفون إلى الماضي النتن المنتهية صلاحيته. يلتفتون يمينا و شمالا . يستنجدون بالعطورات الباريسية الغالية الثمن حتى لا تفوح روائح الخيانات التاريخية . لكن العرض التاريخي على صناديق المواطنين الأحرار عادة لا يخطئ.
و هذا هو الانتحار السياسي الذي يعرفه كثير من الزعماء .
أما الشعوب فإنها عادة لا تنتحر.
من كتاب
الكرتوش الحي
مقالات في الثورة